الأحد، 15 يوليو 2018

الصيام الصحي والمتزن

فضل الصيام المتزن

   الفوائد المادية:

من بين الفوائد المادية للصيام الفرض في رمضان والصيام التطوعي في الحالات المحددة بالسنة الشريفة والتي تنعكس إيجاباً على الصحة الجسمية للصائم، أنه متى تمت عملية الصوم بالحسنى أي بدون إفراط ولا تفريط في الأكل بعد الإفطار، فإن الضغط يقل على الجهاز الهضمي وبالتبعية فإن كمية الفضلات أيضاً يتقلص حجمها مقارنة مع أيام الإفطار. ولهذه الظاهرة جانب كبير من المنفعة الصحية، إذ مع قلة كمية الغذاء المستهلك بعد إمساك لمدة طويلة خلال النهار، ترتفع نسبة استفادة الجسم من المواد المهضومة، وقد يتم تعويض النقص في الطلب من الاستعانة بالقسط المخزون في الأعضاء المخصصة لذلك. وهي بدورها عملية صحية تروم التجديد المستمر للمواد المخزنة بالجسم.

  الفوائد المعنوية:

كما أن للصوم فوائد معنوية تتمثل في تغذية الروح بتلاوة القرآن وبالذكر المتواصل والصلاة المفروضة نهاراً والتطوعية ليلاً وصلة الرحم والصدقة وباقي الأعمال والمعاملات الصالحة. فتنتعش الروح وتخف النفس ويتسارع الصائم في الخيرات وترجح كفة الروح فيه على كفة الطين معوضة بذلك ما طرأ على الجسم والمشاعر من نقص في الملذات والطيبات من الرزق.
ونلاحظ تكرار هذه المشاهد في مواسم ومواطن تعبدية كالحج والعمرة وكذلك في الأعمال التطوعية المقترنة بأيام العشر الأوائل من ذي الحجة صياماً ونسكاً وغيرها من المناسبات والفرص المتكررة خلال كل سنة هجرية.
الخلاصة:

انطلاقاً مما سبق ذكره حول الفوائد المادية والمعنوية لشعيرة الصيام، يمكن استنتاج الفكرة التالية:
(( إنه متى كانت التغذية متوازنة من حيث الكم والكيف، ومتى كانت القدرة قوية في الصبر على الطاعة وفي كبح النفس في رغبتها الملحة على طلب المزيد من التغذية بعد إمساك، ومتى كان الصوم متعة روحانية لا تنقطع فرصها خلال السنة، فإنه من المتيسر على المؤمن كذلك تغليب جانب الروح على جانب الطين في تكوين طبيعة النفس الإنسانية لديه، فتتحرك "النفس اللوامة" لتعمل جاهدة في التخلص من تصرفات "النفس الخبيثة" ولتسمو بجهدها وكدحها إلى منزلة "النفس المطمئنة")).  

الحج والعمرة والخروج الروحاني من الإطار

   تعد مناسك الحج والعمرة أكبر فرصة للخروج الحقيقي الصحيح والصحي من الإطار اليومي المعتاد، فنية الحج أو العمرة، والتجرد من المخيط والمحيط لباساً وتفكيراً، والتلبية إلى أن تبلغ الكعبة فتستقبلها وتدعو بما تيسر وتتمتع بالنظر إليها، ويأت بعد ذلك الطواف والسعي والتقصير أو الحلق، وتأت النفرة لمنى وعرفاة، والمبيت بمنى، ورمي الجمرات، والحلق أو التقصير ثم طواف الإفاضة والسعي، كلها مناسك تشدك للحاضر وتخلصك من قبضة البرمجة السابقة، وتعوضك ببرمجة جديدة هي أفضل وأفيد من سابقتها. وكون المناسك بمثابة تمارين وأعمال يتكرر الإتيان بها لمدة تقارب 21 يوم، فممارستها تنتقل من مرحلة العبادة الإرادية الواعية إلى مرحلة التصرفات الاعتيادية التي يتم تنفيذها تلقائيا ولاشعورياً. 
فمن قبل، كان المؤمن ينتظر فرصة الفوز بالقرعة، فكان تركيزه ينصب على حدث اجتياز هذه العقبة. ويا لها من عقبة كؤود حرمت العديد من المسلمين المتوقين إلى أداء فريضة الحج ولعدة مرات، بحيث يتعين التسجيل في كل عام في لوائح المرشحين، ثم انتظار الحظ. ولقد فرض إجراء القرعة بسبب تكاثر الطلبات من جهة - وهذا مؤشر خير في درجة وعي الأمة الإسلامية - وهو ناتج كذلك عن محدودية القدرة الاستيعابية للأماكن المخصصة لأداء مناسك الحج من جهة ثانية. وكانت طريقة الانتقاء بالقرعة للحجاج مطبقة من قبل، في بعض الدول التي يتجاوز عدد الطلبات فيها عدد الحصة المخصصة لها. والأمر يتعلق ببعض الدول كمصر أول الأمر ثم المغرب وباقي الدول الإسلامية حالياً. وقد قامت المملكة العربية السعودية بأشغال توسعة ساحة الطواف وتوسعة الحرم المكي بالإضافة إلى أشغال تهيئة مكة ككل، بما في ذلك حفر الأنفاق وتعبيد الطرق وإعادة تهيئة البنايات المجاورة للحرم المكي. وقبل اجتياز عقبة القرعة كان المسلم يكثر من دعاء التيسير وطلب نيل حظوة الاختيار، وأصبح مجرد اختيار اسمك في القرعة يعتبر بمثابة فوز في حد ذاته. فتدخل الفرحة على القلوب وتتقاطر التهاني والتبريكات ويبدأ مسلسل آخر من الترتيبات والاستعدادات. وتبدأ مرحلة الانتظار وقد تستغرق ما يفوق السنة. وهي فترة ينشغل فيها المرشح للحج بالدعاء بتيسير الأمر وبلوغ الكعبة وزيارة المسجد النبوي الشريف كقوله " اللهم بلغنا الكعبة والوقوف بعرفة، وزيارة مسجد نبيك محمد صلى الله عليه وسلم". إنها بحق حقبة استعداد وجداني ونفسي وروحي، وتزود بالمعرفة والوسائل المادية وبالخصوص ما يرتبط منها بالتقوى. حتى إذا حان وقت الرحيل ومغادرة الأهل والبلد، تنثاب الحاج شحنة من مشاعر ممزوجة بفرحة السفر ولوعة الفراق. وهذه محطة أخرى ترسم آثارها على الحاج وعلى أهله. وهي بداية الانسلاخ من الوسط الذي ألف المؤمن العيش به، وبداية عملية التجرد من الروابط المادية والنفسية المعتادة، وهو خروج من الإطار الذي كان مبرمجاً على التعامل معه.
وبمحاذاة الميقات، يحرم الحاج أو المعتمر، وينوي الحج أو العمرة قائلاً: "اللهم لبيك عمرة إلى الحج" ذلك لأن المغاربة يحجون بالتمتع. ثم يجهر بالتلبية بالنسبة للرجال وبما تسمع به نفسها وجارتها بالنسبة للنساء، تلبية مسترسلة حتى الحضور بالحرم المكي ومشاهدة الكعبة، قائلين جماعة : " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ". وهى تلبية تنطق بصوت مرتفع ودون كلل أو ملل وفي كل وقت وحين وكيف ما كان الحال. ويمكن قطعها مؤقتاً بغرض الوضوء أو الصلاة، أو في ما يعتبر في حكمهما. وقطعها لمدة طويلة تستوجب الهدي. وهذا هو عمل الحاج أو المعتمر في هذه المرحلة، ولا شغل له غير ذلك، قولاً وفعلاً، وهي عبارات تردد حتى تبح الحناجر، ولن تمنعك من التلبية، عملية الهبوط من الطائرة ولا إجراءات التسجيل بالمطار أو الركوب بالحافلات. انشغال يقطع الطريق على وساوس الشيطان، ويربط الحاج بالحاضر ولا يترك للفكر مجالاً للانفلات إلى أحداث الماضي ولا الاهتمام بتوقعات المستقبل. إنها بحق ظروف تمكن من استحضار الشعور باللحظة الآنية، وما أحوجنا لمثل هذه الأوقات الاستثنائية حيث يحضر الخشوع ولو بدون صلاة، ويتركز فكرك على استقبال مكة المكرمة، ثم الكعبة المشرفة، وكلها محطات تغرق مشاعرك بالشوق والمحبة والألفة بحيث تتكون لديك فكرة أن الهدف من خلق الإنسان هو العبادة ولا شيء غير ذلك. كما يتبين أن الانشغالات بالأولاد والمال إنما هي مشوشات على الرسالة الحقيقية من الحياة.
في هذه اللحظة بالذات، تتوالد لديك مجموعة لا متناهية من الأفكار والإحساسات التي وإن عبرت عليها بمختلف الجمل والعبارات، فإن معناها واحد تجمله الآية الكريمة " وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون " وان ما دون ذلك فهو لهو ولعب ومتاع الغرور كما عبرت عنه الآيات القرآنية الكريمة.
وفي مثل هذه اللحظات تنهال عليك الحقائق، وتنجلي لك البصائر، وتصبح لديك القناعة أن ما أنت فيه الآن هو عين العبادة ومخ التعبد لله الواحد الأحد. كما تنقشع لك حقيقة أن من لم ينعم بمثل هذه اللحظات، فهو مغبون ومغفل، فلا قيمة لما يكتسبه ولا معنى لما يتخبط فيه من كد وكدح.
كما يستنتج من هذه الجولة التأملية أن أحسن ما حققه الإنسان في الحياة، منذ أن ولد إلى الآن، هو تواجده في هذه الظروف الروحانية والتمتع بهذه الآيات الربانية. فما أحسنها من نعمة لا أحرم الله منها أي مسلم يشهد ألا إلاه إلا الله وأن محمد رسول الله. 
ويعود الحاج وكأنه ولد من جديد، ويقرن اسمه بلفظ " الحاج " تشريفا وتكليفاً برسالة الإتقان والإحسان والإصلاح بما استطاع لنفسه فيما تبقى من أركان الإسلام، ولغيره في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حدود ما تيسر لديه من قدرة واستطاعة.

الأحد، 1 أبريل 2018

خرجة التقاعد: الحياة الزوجية والتقاعد

الحياة الزوجية والتقاعد
إن الدخول في عالم التقاعد، قد لا يسبب أي انزعاج عند البعض، لكن الحياة اليومية للغالبية العظمى من المتقاعدين، قد لا تخلو من الصعاب والمشاكل، إن لم يتم الاستعداد والتحضير المسبق والمحكم.
فالمنزل وسط عائلي مخصص لجميع أفراد الأسرة، ولكن أيضاً هو مجال منظم بفترات زمنية ومكانية لفئة دون أخرى. فعند تناول الوجبات مثلاً، فالفضاء مستغل من طرف الجميع. لكن بعد تناول الفطور يغادر الزوج الوسط العائلي متوجهاً لميدان العمل لمدة ثماني ساعات في أيام العمل. وباستمرار العملية لمدة عقود، فإن هذا الاعتياد، يجعل من المنزل فضاءً رحباً للزوجة (إن كانت ربة بيت)، ترتبه كيف تشاء، ولا ينافسها إلا من يسمح له بذلك، كالأولاد بعد العودة من المدرسة أو الزوج بعد العودة من العمل.
ومع وضعية تقاعد الزوج، فإن هذا الأخير، يضطر للمكوث في المنزل بعد تناول الفطور. وهنا تبدأ المعاناة. فمن جهة، يجد الزوج نفسه في مكان غير معتاد التواجد فيه من قبل، فيبحث عما يشتغل به، كمشاهدة التلفاز وغير ذلك. ومن جهة ثانية، نجد الزوجة في ضائقة من أمرها بتواجد عنصر لم تألف حضوره المطول. والأمر قد يمر دون مشاكل في الأيام الأولى، وكأننا في عطلة آخر الأسبوع أو في العطلة السنوية. لكن بعد مرور شهور، فالصبر قد ينفذ، وتبدأ عملية تراكم المشاكل رغم صغر شأنها، وتنشب خلافات لأسباب تافهة. وإن لم يتم تدارك الأمر في حينه بالوعي بالوضعية، والبحث عن الحلول المناسبة، فإن الأمر يتعقد، وتتفاقم حدة عدم التفاهم إلى درجة محاولة البحث عن البدائل: البديل في المكان والزمان وحتى في الأشخاص.
فوضعك الجديد في المنزل بسبب التقاعد، شبيه بوضعك عند بداية الحياة المهنية. ونفس المشهد يتكرر. فهل تتصادم مع المنافسين لك ؟ أم تنسحب وتترك المجال للآخرين ؟ أم تتمسكن حتى تتأقلم، وتبسط وجهة نظرك تدريجياً ؟
وهنا يظهر جلياً أهمية التحضير للمرحلة، وأهمية استباق الأحداث، والتمكن من مجرياتها قبل أن تضطر إلى التكيف معها وتتصارع من أجل تدارك المواقف الصعبة.
والسؤال، كيف يتم التحضير ؟
- يتم نفسياً، وذلك بالتحدث حول الموضوع مع كل الفرقاء: زوجة، أولاد، أفراد العائلة، أصدقاء. ثم إشراك الجميع في الترتيبات اللازمة لحسن التحضير واستقبال المرحلة الجديدة.
- مادياً بتخصيص مكان محدد لك تركن إليه، وكأنك في العمل، وتكون فيه بعيداً عن المنزل، خاصة في وقت الشغل المنزلي، والتحضير لوجبة الغذاء. وما ينتج عن ذلك من إعادة ترتيب الأثاث، وانبعاث للروائح الأولية للطبخ، وما إلى ذالك مما لم تعتاده وتألفه من قبل.
- التحضير الذهني لما تستوجب الوضعية من تصرفات حسب الأوضاع بالمنزل أو خارجه.
- المرور بمرحلة انتقالية، تجعلك تتخلص من روابطك مع الحياة المهنية. وتستبق الأحداث والمواقف تحسباً لما يستقبل من حياة الفراغ والحرية. ويستحسن، الاستعانة بتجارب الأصدقاء الذين مروا بنفس المرحلة.
الأمثلة الواقعية لتصرفات بعض المتقاعدين:
* الحالة الأولى، (سنة قبل التقاعد): اتخاذ بيت بالسطح، يخلو فيه بنفسه بعد صلاة الفجر. فيقرأ القرآن ويتدبره ويحفظ ما تيسر منه. وتستمر العملية في حرية واستقلال، بعيداً عن إزعاج باقي أفراد الأسرة حتى طلوع الشمس. فيستأنف العمل بالمنزل مع باقي أفراد العائلة. وقد يعود إليه في أي وقت شاء من النهار أو الليل.
* الحالة الثانية، (على بعد ثلاث سنوات): تجهيز مكتب بالطابق السفلي من المنزل. ومع التقاعد، أصبح للمتقاعد ملجأ يخلو فيه بنفسه منشغلاً بالقراءة والدراسة، وممتعاً لأهله بترك المجال كما كان يفعل من قبل.
* الحالة الثالثة، (التحضير منذ السنوات الأولى من العمل المهني): فبسبب سوء تفاهم مع المسئولين، أحس الموظف بعدم الاستقرار في الحياة المهنية، فخطرت بباله فكرة البداية في تحضير ظروف الاستقلال المادي والمعيشي. وكانت النتيجة مع مرور الزمن، هي الحصول على مزرعة للفواكه بالأطلس المتوسط. والآن أصبح المكان، شغله الشاغل، وهوايته المفضلة، وفرصة للتواصل مع عالمي الفلاحة والتجارة.
* الحالة الرابعة: التحضير لمسكن للاستقرار بالمدينة، ومسكن آخر للاستراحة في البادية. فمكن ذلك من التناوب في الحياة بين مميزات ظروف العيش بالمدينة ومتعة الحياة بالبادية.
* الحالة الخامسة: تحويل مرآب السيارة إلى ورشة لممارسة هواية الرسم والصباغة.
* الحالة السادسة: اتخاذ زاوية محددة من مقهى مفضل، لممارسة هواية القراءة، والكتابة وغير ذلك.
* الحالة السابعة: تجهيز المنزل بغرفتين للنوم، اتفق الزوجان على الاحترام المتبادل بينهما، ووسعا من مساحة الفضاء المخصص للخلوة الشخصية المخصصة لكل منهما في الليل والنهار، نوماً، واسترخاءً، وتأملاً، وقراءة، أو تهجداً... كما مكن الوضع الجديد من تفادي الإزعاج المتبادل، خاصة إذا دخل عنصري "الشخير" و/أو "الذهاب المستمر للمرحاض ليلاً" في عادة أحد الزوجين أو لكلاهما.
* الحالة الثامنة: (الحالة الشخصية) وعلى بعد 10 سنوات من التقاعد، هيأت مسكناً للاستقرار بالمدينة المفضلة لدي وللزوجة والأولاد ولباقي أفراد العائلة. وإلى جانب ذلك، هيأت شقة مخصصة لمكتب ومكتبة، أركن إليه متى شئت، للخلوة، والاسترخاء والقراءة والبحث، ولمشاهدة وتسجيل الأشرطة.
والحالات المذكورة، هي قصد الاستئناس والعبرة، ولكل منا، الحرية في اختيار الأسلوب المناسب لأحواله الشخصية، والمادية والنفسية، والزوجية والعائلية.