خرجة للتأملات في فضاء أزيلال
كان يوم سبت، وعلى بعد 35 كلم من مدينة أزيلال في
اتجاه أيت بوكماز، في قرية "أغبار" ، وقفت للتأمل والتملي بمنظر
الثلوج التي تكسي قمم جبال الأطلس الكبير، إنه منظر أخاذ وفضاء ساحر لا نملك أمامه
إلا ذكر الله بعظمة قدرته وجلال صفاته، وكثير نعمه، وهذا ما تعبر عنه الصورة
التالية:
وبعد هنيهة من التأمل
في خلق الله، اقترب مني طفل يبلغ حوالي الثانية عشرة من عمره، وبعد تحية السلام
بدأنا تبادل المعلومات بكل سلاسة ويسر، فحاول أن يفهم أنني أستاذ يعمل بأزيلال،
كما أخبرني باسمه وموقع منزله وأنه يتابع دراسته في السلك الابتدائي وهو الآن في
عطلة. لم يكن لدي ما أقدمه له كهدية رمزية، ولكنني اهتديت بعد تفكير وموافقة منه فسلمته
10 دراهم ليشتري بها ما يشتهيه، ثم انصرف لحال سبيله، وأخذت مكاني لكي أنعم بالنظر
لهذه اللوحات الفنية الربانية.
وبعد دقائق معدودات، اقترب مني رجل في الأربعين
من عمره، وهو بدوره ألقى تحية السلام شفوياَ وزكاها يدوياَ، ثم دخل معي في حديث
تعرف من خلاله أنني موظف أعمل بإدارة المالية بأزيلال وفهم أن لهجتي الأمازيغية
تنتمي إلى بلد خارج أزلال، فأخبرته أنني من نواحي مدينة صفرو، كما علمت أنه ينتمي
لمجموعة قرى "سرمت" المحسوبة على منطقة "أيت بوكماز"،
وأنه قطع 12 كلم على رجله ليصل إلى هذا المكان، وينتظر الآن مركباَ يوصله لمركز "أيت
بوكماز" حيث ينعقد فيه السوق الأسبوعي يومه السبت وغداً الأحد. واستطردنا
حديثنا حول الأحوال الجوية، فأخبرني أن طقس هذه السنة يذكر بما عرفته المنطقة خلال
عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي حيث يكثر تهاطل الثلوج لمدة تفوق أربعة
شهور، فينقطع الاتصال بالعالم الخارجي وتصعب عليهم ظروف معيشة عيالهم ومواشيهم، في
حين أن أصحاب السهل في نظره، ينعمون بالخيرات ورغد العيش.
وخلال تواصلي التلقائي
مع الرجل، عاد الولد ليتمم الحديث مستأنساَ بتواجد الضيف، وبسرعة فهم مقصده فكان
كلما سمع أو شاهد سيارة قادمة من أزيلال، أخبره بذلك وكلما اتجه الرجل للاستفسار
حول إمكانية الركوب، همهم الطفل بكلمات يتوسل فيها إلى الله بتيسير الأمر. وازداد
تعجبي بالوضعية عندما علمت أن الولد لا يعرف الرجل ومع ذلك حصل هذا الانسجام
التلقائي. وتأكدت لي صفاء النوايا وإخلاصها عندما حصل الرجل على فرصة الركوب، وعوض
أن يفرح بالأمر ويسرع الخطى لأخذ مكانه بالسيارة كما هو المعتاد عند غالبية البشر
المتمدن، استأذن الرجل سائق السيارة ومن معه من الركاب، وعاد ليودعني بصورة وكأنه
يعرفني منذ زمن قديم.
ومع خلو الجو بذهاب
الرجل، وجد الولد فرصةً لاستكمال حديثه، فعرض علي رقم هاتفه النقال، وأخبرني أن
أسرته تتكون إلى جانب الأبوين، من عدة إخوان وعدة أخوات (لم أركز على العدد) وأن
الفلاحة البسيطة ورعي الماشية هو مصدر عيشهم بالإضافة إلى اشتغال والده بصحبة أخيه
الأكبر بالعمل في الأسواق من خلال سيارة "ترانزيت" بقيادة أخيه. كما
علمت أنه يدرس في مدرسة تقرب من منزله لكن
بحجرة تضم عدة مستويات ابتدائية، وهو التلميذ الوحيد في المستوى الخامس.
واستكمالاً للصحبة وافق على أخذه صورة مع فضاء قريتهم.
إن الصورة تبدو مؤثرة وتبعث على
الشفقة لمن يشاهدها من ساكني المدن، لكن هذا ليس بغريب على من يسكن البادية أو سبق
له اختبار محيطها وسبر أغوار وكنه معيشتها. ففي سنه تذكرت أنني كنت أقطع ما يفوق
سبع كيلومترات ذهابا ومثلها إياباً في كل يوم وخلال ثلاث سنوات الدراسة الابتدائية
وفي ظروف ملبس ومعيشة أسوء مما عليه صاحبنا.
وإن مجرد إلقاء نظرة متفحصة لحال
البادية ومقارنتها بحال المدينة يثير في نفوسنا فضول المقارنة.
فإذا نظرنا إلى عالم البادية من
زاوية أهل المدينة نجدها مناظر خلابة وتصرفات فطرية راقية منسجمة مع نقاء وصفاء
محيطها، فنلمس مظاهر التضامن والكرم والتآزر وكأن الجميع يتكتل ضد قساوة المناخ
ووعورة المجال، وبمجرد ما نتذوق دفئ العلاقات حتى تعود بنا الذاكرة لأحوال عاشها
آباؤنا أو أجدادنا، ولعل هذا ما يفسر بجلاء شغف الأجانب بسحر الطبيعة المغربية
وجاذبية العلاقات الأسرية والاجتماعية لسكان البادية.
وبالمقابل نجد حال أهل المدينة في
عيون أهل البادية بمثابة جحيم لا يطاق، في زحمة توتر الأعصاب وتلوث شامل يخنق
الأنفاس، لكن مع كل هذا تبقى للمدنية مظاهر الجذب
والغواية، ولا يمكن تجاهل النعيم المادي الذي يرفل فيه سكانها، والذي يتمثل في رغد
الحياة ونعيم العيش، وهذا الجانب المشرق للحياة في المدنية هو الذي يستقطب جيوش
المهاجرين من البدو في اتجاه المدن، وينغص حياة المقيمين المغلوب على أمرهم
والمجبرين للإعمار القسري لهذا الفضاء أو الخلاء في نظرهم.
وإن النظرة المتزنة للأمور، تمكننا
من استخلاص أن على المرء أن يجمع بين الحسنيين: إيجابيات الفضاء القروي من جهة
وامتيازات الوسط المدني من جهة ثانية، ويكون بذلك قد تجنب أو خفف من مساوئ
العالمين: ضوضاء وصخب وتلوث المدينة في مقابل قساوة ووحشة عزلة البادية.
كنت اظن ان مولاي الحسين ذو ثقافة فرنسية صرفة وإذا بي اكتشف من خلال هذا الوصف الدقيق لرحلة خروجه من الاطار اكتشف اديبا يطوع الكلمات في تناسق بديع لله ذرك و لولا بعد المسافة بين الرباط و بني ملال و نذرة اللقاءات لاكتشفنا فيكم مواهب و خصال اخري. و السلام عليكن
ردحذف