الأربعاء، 27 أبريل 2016

فرصه المرض



خرجة المرض وفرصة التأمل



دعوت الله بالشفاء في صلاة تهجد لم أتعود القيام بها من قبل، ذلك أن إصابة رجلي بتوعك زعزع استقرار نفسي وأحدث خللاً في توازن حياتي اليومية، لكن عزائي يكمن في أن حالة المرض تجعلني بمعية الله عز وجل. فدعائي بالشفاء ضرورة لكسب المزيد من الأجر، فإما شفاء عاجل، وهذا فضل من الله عز وجل، وإما شفاء آجل وهو كرم منه تعالى، ادخره لصالحي.


لقد طال المرض لمدة تفوق السنة، وقد أكون السبب في مرضي هذا وفي إطالة أمد شفائه، لكن ظروف وملابسات الحدث ترجع أساسا لمشيئة الله، فلا أحد يعلم الغيب، ولا أحد يتمنى لنفسه المرض.

وما لا نفقهه جيدا، أن المرض كغيره من الأحداث غالباً ما تكون له منافع جانبية قد لا نفقهها ونختبر كنهها في حينها، ولذا فإن الحكمة تقتضي منا الاعتقاد يقيناً أن في طي كل نقمة نعمة، وأن رحمة الله قريبة من المريض، ورب مرض أمنعك من حادثة أكبر منه خطورة ووجعاُ، فالحمد لله على ما أعطى والحمد لله على ما منع وإنا لله وإنا أليه راجعون.

ومن الملاحظ أنني حرمت من الصلات في المسجد، وقد تكون في ذلك حكمة، ومنعت من كثرة السفر لحكمة ربانية أجهلها، وحرمت من ممارسة رياضة المشي، وحرمت من عدة أشياء كثيرة لم أكن لأقدر حقيقة قيمتها لولا تجربة هذا العطب.

وفي محاولاتي للتطبيب، كانت فرصة للتعرف على ممرض الترويض، فكانت الحصص ترويضاً جسمياً بالأساس لصالحي، لكنها ترويضاً نفسياً لصالح الممرض، نشطت فيه صفات الإخلاص في العمل والمعاملة، كما دأبت شخصياً على زيارة المستشفى بغرض حصص الترويض، ولم أكن أزره من قبل إلا في مناسبات رسمية، وفي ذلك أيضاً حكمة.

والمرض فرصة لمراجعة النفس، وإعادة تقييم عملها خاصة وقد سبق لي أن مررت بتجربة مريرة بحضيرة فاس العالمة، كادت تعصف بمجمل تجربتي الإدارية، حتى إذا من الله علي بالخلاص وجاءت بي الأقدار إلى حضن الجبال، حددت أهدافاً طموحة وآليت على نفسي بتكريس جهدي وطاقتي لتحقيق إنجاز هام في الميدان المهني وفي حياتي الشخصية، والآن وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات، فهل تم الالتزام بما تم تسطيره ؟ أم كان للهدوء والاستقرار و الدعة والاستكانة والخلود للراحة وقعه وتأثيره ؟

هنا يأت دور المرض، فهو مناسبة لإجراء وقفة تقييمية وتدبرية لتصحيح مسار الحياة.

ففيما يتعلق بالعمل، فإني أنعم بطمأنينة وأرفل في أمن داخلي وخارجي، وهذا نتيجة مجهودات بذلت خلال السنتين الأوليتين، فقد سبق لي أن استثمرت خلاصة تجربتي الإدارية ولب معرفتي التقنية وزبدة معاملاتي الإنسانية، وهذا ما قد يفسر عدم قبولي باقتراح الإنتقال خلال هذه المدة. وهذا لا يعني أن مهمتي قد انتهت بتحقيق الهدف المرحلي، بل هناك أمامي تحديات جسام أرى أنه من واجبي إعادة استنفار الطاقات وتسخير الامكنات وشحذ الهمم لمواجهتها، إنها تحديات قديمة بحلة جديدة، تحديات تخليق الحياة الإدارية، خاصة وأن السلطات المركزية نزلت بثقلها في سبيل تحقيق هذا الهدف مبدية رغبتها الصادقة وعزمها القوي من خلال تنفيذ مشروع "الالتزام" وهو عبارة عن ميثاق للقيم في الخزينة العامة للمملكة .

وفي خضم هذه التحولات، حدثتني نفسي، ونصحني بعض الأصدقاء المخلصين باغتنام فرصة المغادرة الطوعية للانفصال عن الإدارة والهروب من متاعبها، وبعد أن حسمت في الموضوع أجدني أعاود طرح نفس التساؤل، وهذا ما يدفعني اليوم لإعادة التفكير من جديد في الأمر. فهل خروجي المبكر والاضطراري من الإدارة أتى كنتيجة لاستكمال مهمتي فيها بتحقيق الأهداف المسطرة ؟ أم هي فرصة تمكن من الهروب بقسط من الامتياز المادي تحكمه عوامل التثاقل إلى الارض والرضا بالحياة الدنيا الفانية ؟ فلا قيمة لحياة داخل أو خارج الإدارة بدون أهداف تحرك كل كياني وتجند شامل طاقاتي، وإلا فهل خلقنا عبثاً لنهدر الوقت ونستكين لنعيم زائف وملذات زائلة في انتظار الموت ؟ وما محل الآخرة والحياة الأخروية من الإعراب ؟ فهل الخلود لا يستحق إلا بالكد والعناء ؟

وكمشروع جواب لهذه التساؤلات، وما دام قدري أوجدني في الإدارة وهي الثغر الذي كلفت بحمايته وتنميته والدود عن حماه، فعلي العمل بصدق وإخلاص، متحملاً كامل مسؤولياتي المادية والمعنوية بكل حزم وثبات وثقة، متجاهلاَ لكل عوامل  الإحابط والتثبيط واليأس، وكل ما من شأنه أن يبطل سنن التسخير بين الخلق  و التدافع الاجتماعي والغلبة للأصلح.

وبالعودة للمرض، فإن الدعاء الحار يلازم الألم، والتسبيح الصادق يصاحب المعاناة.

فالمؤمن المصاب يحول حرقة الألم ووجع المعاناة إلى لذة التدلل ومتعة المناجاة.

ومن يريد أن يؤثر بكلامه ويبرهن على مصداقية وجهة نظره، عليه أن يتأثر ويحترق بها أولاً، ثم يتذوقها ويتفاعل معها قبل أن يعرضها على غيره.

ووعكة المرض مع تأثير الألم، هما بمثابة حصارين لقطار حياة المصاب، يوقفانه بمحطة الاستراحة والتأمل والتدبر: فهي بالنسبة للمؤمن، راحة النفس من كد الحياة، ونقاء للروح من درن التدافع.

ففي خضم الحياة المعيشية اليومية، يتواجد المرء في مواقف يكون هو أفقه بها وأدرى بصلاحيتها من غيره، وتلبية لميزان التعامل الاجتماعي والمرونة الأخلاقية، تجده في ضرورة التدخل الفوري لتصحيح الوضع معرضاً مصالحه المادية الدنيوية للتلف، أو يختار الصبر على الابتلاء ويدفع بالتي هي أحسن مرتقباً الابتلاء بالنكبات المصقلات والمصائب المطهرات، فيتحمل الجسد الثمن، مفسحاً المجال للنفس اللوامة لتزيل ما تراكم في القلب من أدران وتتصالح مع الروح بالتوبة النصوحة والاستغفار الصادق، عسى أن تغشيها رحمة الله وتظفر بعفوه.

و ميز الله بين الصحابة بحسب مقاصدهم، فقال " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق