الأحد، 24 أبريل 2016

الخرجة في فضاء أيت بوكماز




الخرجة في فضاء أيت بوكماز


تقديم:

" أيت بوكماز " منبسط بطول يفوق عشر كيلومترات، يقع بين جبلين، وسمي ب "الشعبة السعيدة" ( Vallée (heureuse .

تبعد المنطقة ب 80 كيلومتر عن مدينة أزيلال و160 كيلومتر عن مدينة بني ملال، والطريق المؤدية إليها تتخللها منعرجات ومسالك صعبة خاصة في فصل الشتاء.


سكان المنطقة من قبائل الأمازيغ الذين استوطنوا هذه الجهة الغربية من جبال الأطلس الكبير منذ ما يفوق ثلاث آلاف سنة حسب مؤلف كتاب ( Les chants de Tassaoute ). وكانت العزلة هي السمة المعروفة بهذه الديار، فاستمر الوضع كذلك منذ القدم وإلى عهد قريب، حيث لم يتم تعبيد الطريق الوحيد الرابط بينها وبين مدينة أزيلال إلا في أواخر القرن العشرين. ويشرع الآن في فتح طريق ثانية سميت بالمدار السياحي، تربط أيت بوكماز بدمنات عبر أيت بولي.

وكانت العزلة بالنسبة للمنطقة بمثابة سيف ذو حدين: فقد كانت السبب في تأخر النمو بمفهومه العصري، بحيث لا تمدرس مكثف وشامل، ولا عناية بالصحة ورفاهية العيش من جهة، لكن يلاحظ من جهة أخرى، أن من بين مميزات العزلة، حفاظ سكان المنطقة على عادات وقيم نبيلة لصيقة بالطابع البدوي للساكنة، تلك القيم المشبعة بمبادئ التعاليم الإسلامية وبما راكمته التجارب العرفية المدعمة لثقافة التضامن وكل ما له صلة بحسن تدبير المصلحة العامة أو ما يعرف في المناطق المغربية غير الحضرية ب"إزرف".
ويمكن استحضار بعض من هذه القيم على وجه المثال لا الحصر:

-         التضامن الأسري والتآزر القبلي،
-         الكرم والجود بين أفراد العشائر وتجاه الزوار،
-         السكينة والسلم الاجتماعي والأمن الروحي.




المؤهلات الطبيعية والبشرية للموقع:

لقد سبق لي أن قمت بعدة زيارات لهذه الأماكن، وفي كل مرة كنت أزداد تعلقاَ وارتباطاَ بمكوناتها: كحال الفضاء الطبيعي المعطاء والمخضر على الدوام، بسبب وفرة المياه وجودة الأرض، بالإضافة إلى نوعية ثقافة ساكنتها كنموذج للتعامل الراقي والتواصل المبني على الأصالة والتراث الإنساني المغربي الأصيل. 

ولا أبالغ إن حصرت أسباب اختيار الزوار لهذه الوجهة في هاتين الميزتين: الطبيعية والاجتماعية.
وقد سبق لي في إحدى الزيارات للمنطقة أن دخلت مأوى لاستكشاف مكوناته، فوجدت سائحاً أجنبياً مع زوجته، وهما في سن متقدم من العمر، فسألتهما عن سبب الزيارة ؟ فقالت الزوجة مندهشة، ألا تعلم أن الكاتب فلان ( لا أذكر اسمه) وصف المكان ب"الشعبة السعيدة" ؟ وزادت قائلة، وإنها لكذلك. فبحضورنا الآن لعين المكان، عاينا ما عبر عنه الكاتب الفرنسي في العشرينات من القرن العشرين. كما أن مقامنا بين الساكنة مكننا من استرجاع أنماط الحياة التي عاشها أجداد آبائنا في الريف الفر نسي. كالحرث بالمحراث الخشبي المجرور بالدواب، وعمل المرأة في الحقل مع الأولاد إلى جانب الرجل، نوع اللباس المحتشم وما إلى ذلك.

فلنركز إذاً على ما تزخر به هذه " الشعبة السعيدة"، من مؤهلات طبيعية، وما تم الحفاظ عليه من تقاليد وعادات جيدة.

 
الجانب البئي والاستشفائي للوسط: 

بالإضافة إلى ما ذكر من أسباب الاهتمام بالمنطقة كوجهة سياحية بامتياز، يمكن القول أن التواجد في مثل هذا الوسط والاستمتاع بالحياة في مثل هذا الجو، لهو البلسم الشافي لكل الاضطرابات النفسية والتوترات العصبية والقلق الملازم للتصرفات العائلية والمهنية والاجتماعية، وهي ترسبات لأزمات نفسية تراكمت بسبب آثار ومخلفات العوامل والتصرفات الحداثية المزيفة، المبنية على مقومات الحضارة المادية الجشعة.

ولا غرابة، فقد بدأ أصحاب المآوي والمرشدين السياحيين ينظمون ما أصبح يعرف ب "زيارات المرافقة" تتمثل في القيام برحلات سياحية ترفيهية لمنطقة أيت بوكماز لمدة محددة، تقام فيها بعض الأنشطة التي من شأنها الترويح عن النفس، كالمشي على الأقدام وامتطاء الدواب والمبيت في الهواء الطلق بعيداً عن التجمعات السكنية، وكل ذلك برفقة مختص في التنمية الذاتية أو في الاستشارة والعلاج النفسي.



تجربة الزيارة العائلية: 

سأذكر على سبيل المثال تجربة الزيارة الترفيهية العائلية المقامة بمناسبة عطلة الاحتفال بعيد الشغل لهذه السنة 2015، والذي صادف عطلة آخر الأسبوع، وهي فرصة للتنزه في جبال ووديان الأطلس الكبير، وبالخصوص ما يتعلق بالجانب الغربي منها والذي يمتد من سهول تادلة إلى شعاب أيت بوكماز، مروراَ بأفورار، أزيلال، أيت محمد، أيت عباس وأيت بولي.

كانت الطريق ممتعة من حيث مناظر الجبال والغابات، لكنها متعبة في نفس الوقت بسبب انجراف التربة وتأثير الفيضانات الموسمية على جودتها، مما تسبب في أضرار قد لا تقوى إمكانات المصالح الإقليمية على ترميمها في الأوقات المناسبة. واستمر السفر زهاء أربع ساعات تخللتها وقفات للتأمل والتملي بمناظر الطبيعة التي لا يسعك أمامها إلا أن تسبح الله على عظمة الخلق وتنوع المخلوق.

وبمجرد الوصول وأخذ قسط من الراحة بالغرفة المختارة من طرف صاحب المأوى، قدم الشاي كقرى مع قطع من الحلوى، أي دون الحاجة لتقديم طلب بشأنه، وهذه أولى الخصال الحميدة التي تعرف بها المنطقة والتي سوف لا نمل من ذكر تفاصيل بعضها في هذه التجربة.

أذكر كذلك أن من خصائص المأوى الذي نزلنا به، أنه من بين المباني التي شيدت على الجانب الجبلي من المنبطح، وهذه فكرة تجسد بوضوح أن الأهالي لهذه البلدة، لديهم وعي بالقيمة المادية والمعنوية للتربة الخصبة، ففضلوا عن قناعة احترام قداستها الفلاحية المعطاء، ولم يجرؤوا على تلويثها بالبناء والتشييد كما هو الحال في تمدد العمران في المدن الكبرى. وكان من حسن الصدف وبعد النظر أن أبدع الفكر "البوكمازي" في هندسة البناء. فتكدس البنايات في حيز كله منحدرات، أعطى المنظر جمالية تشد النظر إليه بالإعجاب والتقدير. فالإبداع يأتي مع النذرة والحاجة، والجمود وبشاعة المظهر يلازمان التبذير والترف.
      
كانت كل من الغرفة والشرفات مطلة على المنبسط الغني بتربته ومياهه، والمزدان بالمزارع والأشجار المثمرة، ولا يملك المتأمل لها إلا أن تركبه رغبة الاندفاع مهرولاً لملامسته والارتماء في أحضانه. وهكذا تطابقت الرغبات، في تنفيذ ما جال في الخواطر، فلم نعبأ بمتاعب السفر، وقررنا القيام بجولة خفيفة في الحقول في انتظار رفع آذان صلاة المغرب في مسجد دوار "أكوتي".

كم كان إعجابنا كبيراَ بما أحسسنا به ونحن نسير في طرقات الراجلين المحاذية للحقول أوالعابرة للدواوير. فالجو كان معتدلاَ ولا تسمع إلا خرير المياه، وأصوات العصافير والحيوانات الأليفة وهي تستعد للمبيت. كل منا أمسك هاتفه النقال وشرع في تسجيل لقطات من حياة لا يمكن لنفس منقبضة إلا أن تنبسط لها، ولا لأي صدر ضيق إلا أن ينشرح لها.

إن لروعة المكان أثر بالغ على تصرفات السكان، وقد تجلى ذلك على الفور، حيث ونحن في الجولة الاستكشافية الأولى، فهناك من يبادر بإلقاء التحية ولو تعلق الأمر بالمرأة أو الطفل الصغير، إذ لا يستساغ اللقاء دون إلقاء تحية الإسلام. وعند تواجدنا بالمسجد، استعداداً للصلاة، فهناك من يساعد على جلب الماء الساخن قصد الوضوء، ومن المصلين من آثرك على نفسه مفسحاً لك المكان للاصطفاف بالقرب من الإمام والمؤذن، ونحن نعلم يقيناً أن الأمر يختلف كثيراً في المساجد المتمدنة، حيث يتنافس المصلين على المراتب الأولى ولو كان ذلك على حساب إذاية المصلين، وكأن الأمر لا يختلف عن تفعيل قانون التدافع المادي ولو تعلق الأمر بالميدان التعبدي والروحي.

كانت الليلة هادئة، مكنتنا من الخلود للراحة والسكينة ثم النوم مبكراً. وما أحوج ساكني المدن إلي الإحساس بهذه المشاعر الفطرية من حين الآخر. و من الطبيعي أن يكون الاستيقاظ مبكراً، وكأن الأمر لا يحتمل إضاعة الوقت في النوم والخمول كما هو المعتاد في غير هذا المكان.

الجانب السياحي للمنطقة:

كان اليوم الثاني من الزيارة حافلاً بعدة أنشطة، نذكر منها على سبيل المثال، زيارة بعض المآوي المتواجدة بالمنطقة من بينها "مأوى مكون"، وهو مصمم على نمط الهندسة المعمارية للبلد. وهو عبارة عن منزل يسمى (إيغرم) يتكون من أربة أبراج مشيد بالطين. وبمجرد الوصول لعين المكان، استقبلنا أخ صاحب المأوى مع امرأة تبدو من العائلة، فزرنا الغرف والشرفات ثم جلسنا لتناول الشاي المقدم على سبيل الترحاب بالضيوف.

و من بين الأنشطة المعروفة بأيت بوكماز، زيارة برج سيدي موسى: إنه مبنى لتخزين الحبوب مشيد على قمة هضبة كبيرة تتوسط منبطح شعبة أيت بوكماز. وقيل أن أهل البلدة وجدوا في هذا المكان مأمن على محصولهم الزراعي، يقيهم من آفة السلب أيام ما يسمى بالسيبة، أي في الفترات التي تضعف فيها شوكة المخزن ويطغى دور النزعات القبلية والتجمعات السكنية في البوادي. ويمكن للزائر معاينة الغرف المخصصة للتخزين، وتناول كأس شاي هيأ من طرف عارس البرج، ثم الصعود لسطح المبنى قصد مشاهدة منظر جوي للشعاب وأخذ صور تذكارية لذلك.


الجانب التعبدي في المنطقة:

يتواجد عدد لا يستهان به من المساجد في شعاب أيت بوكماز، وقد لا يتعلق الأمر بالكثافة التي نصادفها في شمال المغرب كتاونات، الشاون، تطوان وطنجة، ولكن يلاحظ أن القيم العليا ومبادئ الخير والتضامن متأصلين في أهل البلدة أكثر مما نجده في غيرها من مناطق السهول والجبال.

وهناك مساجد مخصصة لتحفيظ القرآن الكريم، وهذه ظاهرة صحية توفر ضمان استمرار الأمن الروحي، إذ أن غالبية الأئمة هم من أبناء البلد. لكن ما يلاحظ كذلك هو ضعف تجهيزات الكتاتب القرآنية، حيث الألواح مصممة من قطع الخشب، والحصائر في حالة متهالكة وتنقصها النظافة والنظارة الازمة لفضاء تحفيظ القرآن، ولا تليق بالمكانة المشرفة لطلبة العلوم الشرعية.

جانب السلم الاجتماعي :

ومما أثار انتباه أفراد الأسرة في هذه المنطقة، ظاهرة الكلاب، فلاحظ الجميع عدم مصادفتهم لأي نوع من كلاب الحراسة ولا كلاب الكسب للزينة والتفاخر أو غيرها. كما لوحظ كذلك عدم الاستماع لنباح الكلاب ليلاً ولا نهاراً. وأنت تمشى بين الحقول أو وسط الدواوير، فلن يصادفك كلب أليف، ولن يهاجمك كلب حراسة، وكأن الأمر يتعلق بإخلاء الأجواء مما قد يعكر صفو الحياة المطمئنة التي يراد أن ينعم بها أهل البلد وزوارها.

ولما طرحت السؤال على صاحب المأوى، أجاب بأن السكان يعتقدون أن كسب الكلاب يهلك حسنات أهل البيت، ثم إن الوظيفة الأساسية للكلاب هي حراسة الماشية من أذي الذئاب أو اللصوص. وما دام أن المواشي تتواجد في الجبال، فإن الكلاب هي أيضاً تتواجد بالقرب منها وفيما يسمى "بالعزيب" أي مكان مؤقت للسكنى دأبت عليه القبائل الرحل التي تجري وراء الماء والكلأ. فلا حاجة لساكني الدواوير من الحراسة ولا خوف على أمتعهم ودورهم.

ولظاهرة فرض احترام الزوار الأجانب لقاليد وأعراف أهالي المنطقة أثرها البالغ في التزاوج بين ضورتي حسن الضيافة وعدم التضحية بالموروث الثقافي والقيمي، حيث لا يسمح بالتبرج أو التمظهر بما يخدش الحياء والحشمة. وقد لامس الجميع مدى انضباط هؤلاء الزوار لمثل هذه الممارسات، بل ومنهم من يستمتع بها. 

ولا تفوتني الفرصة دون التطرق لظاهرة "بوغانيم" او "أمذياز"، ويتعلق الأمر بالفرقة الموسيقية المتكونة من ثلاث رجال: اثنين منهم يضربان على الدف "البندير" وثالثهم وهو رئيسهم يرتدي لباساً مزركشاً، ويعزف على آلة الرباب بقصبتين. و"بوغنيم" هذا يعني بالأمازيغية: صاحب القصبة، لا يوجد إلا في هذه المنطقة. فهو الذي ينشط كل الحفلات، وهي حرفة تورث أباً عن جد. إيقاعها هادئ، وأشعارها حكم وعبر. وإذا قارنا هذا الصنف بغيره من الفرق الفولكلورية المتواجدة في سلاسل الجبال المتوسط منها والصغير، يظهر الفرق جلياً، ونلمس مدى تأثير ثقافة القيم والمبادئ في التصرفات والمنتجات الثقافية للمجتمعات المغربية.
 
 





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق